لم يكتفِ الرسول صلى الله عليه وسلم بمخاطبة الصفوة الحاكمة في مملكة عُمان آنذاك، فقد أخذت الحملة الإعلامية النبويَّة تشقُّ طريقها إلى الشعب، ولم تقتصر على الملوك(32) ، ويطالعنا من هذا الاتجاه رسالته صلى الله عليه وسلم إلى العامَّة من أهل عُمان يدعوهم إلى قبول الدعوة الإسلاميَّة، أو البقاء على عبادتهم ودفع الجزية للمسلمين، ويبدو أنَّ كثيراً من العُمانيين كانوا في هذه الأثناء يعتقدون المجوسية، ويتابعون الفرس في ديانتهم، وستمرُّ بنا إشارة واضحة إلى وجود بيت النار في عُمان، مما يعزِّز ما ذهبنا إليه من وجود المجوسية وانتشارها في هذا الصقع آنذاك، جاء في رسالته صلى الله عليه وسلم مخاطباً أهل عُمان:
"أن أسلِموا، فإن لم تُسلموا فأدوا الجزية"(33)
وتتراءى هذه الرسالة المقتضبة الخالية من الديباجة واضحةً في دلالتها، ميسورةً في معانيها، مقتصدةً في ألفاظها، فهي تنضم على أمرين يشيعان في أكثر الرسائل النبويَّة المتعلِّقة بموضوع الدعوة، فهي تبدأ مُرغِّبةً بقبول الإسلام والدخول في دعوته من غير شُروط، وتنتهي بالخيار الآخر وهو دفع الجزية مقابل المحافظة على حرية الاعتقاد. ويتراءى في الرسالة الخطاب الجمعيُّ "أسلموا، تسلموا، أدوا"، وهو ما يشير إلى عموم الرسالة، وعدم اقتصارها على فئة دون فئة.
وتبدو الرسالة الأُخرى التي خصَّ بها الرسول، عليه الصلاة والسلام، العمانيين(34) أكمل وأوفى من سابقتها الموجزة، فقد جاءت مستهلة بالعنوان الذي يبين المُرسِل والمُرسَل إليه، وورد العنوان مشفوعاً بالتحية، فالبعديَّة، فالموضوع، على نحو لا يبعد عمَّا رأيناه في الرسالة الموجَّهة إلى جيفر وعبد، ملكي عُمان، وتسير الرسالة على هذا النحو:
"من محمد رسول الله إلى أهل عُمان، سلام عليكم، أمَّا بعد: فأقرُّوا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد كذا وكذا، وإلا غزوتكم"(35) .
يستشف القارئ من هذه الرسالة ملامح الرسالة النبوية بعامَّة، فهي تستند إلى مقوِّمات مشتركة أهمُّها: البساطة في الألفاظ والمعاني، والوضوح في الفكرة، إذ تؤدى أداءً بيناً من غير عناء أو تكلّف، حتى لتخلو ديباجتها من ألفاظ التبجيل والتعظيم بحق المرسِل والمرسَل إليه، كما تأخذ الرسالةُ نفسها بعناصر البناء الشكليِّ الشائع في الرسائل النبوية، إذ ترد هذه العناصر مرتَّبةً في إثر بعضها من غير فواصل: العنوان، فتحية البدء، فالبعديَّة، فالموضوع، غير أننا نلمس غياباً لبعض العناصر كالبسملة وتحية الختام اللتين اطَّردتا في كثير من المكاتبات في صدر الإسلام(36) .
وتجرى الرسالة على شاكلة المراسلات النبوية في الاستفتاح بذكر اسم المرسل وصفته مجرَّدين "من محمد رسول الله"(37)، وفي هذه الصيغة توجيهٌ إلى حقيقة الدعوة التي يحملها الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلام بشخصيته وحقيقة دعوته، فهو مبعوث من الله لأداء رسالته، لهذا فهو يستهلُّ مكاتباته في الدعوة ببيان هذه الحقيقة محاولاً إرساءها في أذهان المتلقين.
وثمة أدلَّة تحتضنها الرسالة تدلُّ على أنَّ النبي، عليه الصلاة والسلام، كتب هذه الرسالة إلى أهل عُمان بعد أن استجابوا لله ودخلوا الإسلام، فمن ذلك أنـَّه استعمل تحية الإسلام "سلام عليكم"(38)، ومن المعروف أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفارق بين صيغتين من صيغ التحية: صيغة خاصة بالمسلمين وأهمُّ صورها "السلام، عليك / عليكم". وصيغة خاصَّة بغير المسلمين، وصورتها المشروطة "سلامٌ على من اتبع الهدى". وثاني الأدلَّة أنـَّه دعاهم إلى الالتزام بتعاليم الإسلام، فإن لم يأخذوا بها قاتلهم، وهذا لا يناسب كونهم كفاراً، فيمكن أن يكونوا منعوا الزكاة وتركوا إقامة الصلاة(39)، ومعلوم أنَّ غير المسلم يُطلب إليه أولاً أداء الجزية، فإن أبى قُوتل، بخلاف المسلم غير الملتزم، فإنـَّه ينذر بالعودة أو القتال.
يدور موضوع الرسالة حول تأكيد ما يقتضيه الدين الذي ارتضاه العُمانيون من وجوب الإقرار بالتوحيد الخالص، والإيمان بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإقامة الصلاة بما تستدعيه من هدم بيوت النار وإحلال المساجد مكانها، وتشييدها على السمت الإسلاميِّ، والقيام بفرضية الزكاة، وتوزيعها في مصارفها الشرعيَّة.
ولعلَّ القارئ يلاحظ أنَّ الرِسالة تنتهج نهج الرِسالة الموجهة إلى الملكين، جيفر وعبد، فهي تجمع بين الترغيب والترهيب في آنٍٍ معاً، إذ بدأت بدايةً هادئةً، بيد أن وتيرتها تصاعدت فجأة، عندما ختمها الرسول صلى الله عليه وسلم بالتهديد والوعيد، وبذلك يرى القارئ أنَّ لهجة الرِسالة انقلبت انقلاباً تاماًّ، وتحوَّل مستواها من اللين إلى الشدَّة، فقد كانت النهاية شديدة الوقع، إذ أنذر عليه الصلاة والسلام المدعوِّين بالحرب إذا لم يستجيبوا لما تضمَّنته الرسالة المبعوثة إليهم. وقد يكون من تفسير لهذا التهديد الشديد ما ذكرناه سابقاً من جواز أن يكون أهل عُمان أعلنوا الأسلام آنذاك ولم يأخذوا بمقتضياته، مما دعا إلى تعنيفهم على هذا النحو.
* * * *
يظهر مما سبق أنَّ الرسالة النبوية إلى أهل عمان وجِّهت إلى الخاصَّة والعامَّة، على السواء، وإذا كنَّا رأينا أنَّ رسائل مفردة وجِّهت إلى هاتين الشريحتين، كلٌّ على حِدة، فإنَّ المصادر أمدَّتنا برسائل من نوع آخر يجمع بين دعوة الملوك والرعيَّة، ولا يجري على غرار الرسائل السابقة التي كانت تفصِّل الخطاب على منـزلة المخاطب، مُباينةً، بين خطابين، يختصُّ أحدهما بالحُكَّام، ويتفرغ ثانيهما للرعية. وبين أيدينا رسالتان تندرجان تحت هذا اللون، أمَّا الرسالة الأولى، فقد جعلها صلى الله عليه وسلم عامَّةً إلى أهل عُمان، حُكَّامهم ومحكوميهم، مطلقاً على الفئتين تسمية "عباد الله الأسبذيين"(40)، في إشارة واضحة إلى أنّهم كانوا يتبعون الفرس، ويفصح الرسول صلى الله عليه وسلم عن مقصوده بهذه التسمية، مشيرا إلى أنَّ المقصود بها أهل عُمان، ولا سيَّما مُلُوكهم ومن كان من قبيلة الأزد فيها، وتشبه الرسالة أن تكون أماناً عاماً مشروطاً، وقد جاء فيه:
"من محمد النبي رسول الله لعباد الله الأسبذيين - ملوك عُمان وأزد عُمان، من كان منهم بالبحرين(41) - إنهم إن آمنوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله ورسوله، وأطاعوا حقَّ النبي صلى الله عليه وسلم ونسكوا نُسك المؤمنين، فإنـَّهم آمِنون، وإنَّ لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بين النار ثنيا(42) لله ورسوله، وإنَّ عُشُور التمر صدقة، ونصف عُشُور الحَبّ، وإنَّ للمسلمين نَصرهم ونُصحهم، وإنَّ لهم على المسلمين مثل، وإنَّ لهم أرْحَاهم يطحنون بها ما شاءوا"(43)
تبذل هذه الرسالة - فيما هو واضح للعيان - أماناً متكافئاً، يقدِّم فيه كلٌّ من الجانبين ما يلزمه لتحقيق هذا التكافؤ، إذ يُطلب من أهل عمان قبول الشرائع الإسلامية بما تقتضيه من الإيمان بالله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، ومناصحة المسلمين، وردِّ الحقوق والمظالم، وإظهار السمت الإسلاميِّ. وفي المقابل يقدِّم باذل الأمان الأمن والحماية للعمانين، ويتكفَّل بدفع الأذى والضرر عنهم، ويقوم بواجب النصرة والنصح لهم، ويحفظ لهم حقوقهم الماديَّة والمعنويَّة، ويبيح لهم حرية التملُّك المشروع والعمل المستقل في مصالحهم، فلا يضارون في مكاسبهم وأرزاقهم.
وفي إزاء هاتين الطائفتين من الشروط المتكافئة، يتضمَّن الأمان استثناءً خاصاًّ يتعلَّق ببيوت العبادة التي كان عليها كثيرٌ من العمانيين، إذ يحدِّد الرسول، عليه الصلاة والسلام، مصيرَ دور النار هذه، فيقرر أنَّ ملكيتها ستؤول إلى الله ورسوله، فليس لأحد حقٌّ في أموال المعابد تلك؛ لأنَّها أضحت حقّاً شرعيّاً، يتصرَّف فيه الرسول، عليه الصلاة والسلام، وفق شرائع الدين وأحكامه.
وتسوق المصادر رسالة أُخرى مُشاكلة لسابقتها في المضمون، بيد أنَّها تشتمل مزيداً من التفصيلات الشرعيَّة، التي يوجبها الأمان المُعطى، وبخاصَّة فيما يخصُّ الالتزامات المطلوبة ممّن يؤثر من أهل عمان البقاء على دينه والارتباط بعقد الذمَّة، وهذا نص الرسالة:
"بِسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العباد الأسبذيين، سلْمٌ أنتم، أماّ بعد ذلكم: فقد جاءني رُسلكم مع وفد البحرين، فقبلت هديتكم. فمن شهد منكم أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ، واستقبل قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا فله مثل ما لنا، وعليه مثل ما علينا، ومن أبى فعليه الجزية على رأسه معافى على الذّكر والأنثى، ومن أبى فليأذن بحربٍ من الله ورسوله. وعليكم أن لا تمجِّسوا أولادكم، وإنّ مال بيت النار ثنياًّ لله ورسوله، وعليكم في أرضكم ممَّا أفاء الله علينا منها مما سقت السماء، أو سقت العيون، من كلِّ خمسة واحدة، وممَّا يسقى الرشاء(44) والسواقي من كلِّ عشرة واحدو. وعليكم في أموالكم من كلِّ عشرين درهماً درهمٌ، ومن كلِّ عشرين ديناراً دينارٌ. وعليكم من مواشيكم الضعف ممَّا على المسلمين، وعليكم أن تطحنوا في أرحائكم لعمَّالنا بغير أجر. والسلام على من اتَّبع الهدى"(45) .
جاءت هذه الرسالة رداًّ على أهل عُمان "العباد الأسبذيين" الذين وجهوا سفراءهم بالهدايا إلى الرسول، عليه الصلاة والسلام، مع وفد البحرين، وقد قابل صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع الجميل بمثله، فقبل الهدية العمانيَّة، تقديراً واحتراماً لأصحابها، وحرَّر لهم كتاباً جامعاً يُبين ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات. وظاهرٌ أنَّ مشتمل الرسالة يتعانق مع المبادئ الإسلامية العامَّة في الدعوة، وتستوي هذه المبادئ على تقديم الخيارات الثلاثة: قبول الإسلام، أو دفع الجزية، أو جهاد الرافضين.
وكما هي الحال في المراسلات النبويَّة، تضع الرسالة بعض المرغِّبات أمام المدعوين، فتجعل من يقبلون الدعوة ويعملون بأحكامها في منـزلةٍ سواء مع غيرهم من المسلمين، إذ الجميع متساوون في حُقُوقهم وواجباتهم، لا فرق بين أحدٍ في ذلك. ويلاحظ أنَّ أصداء المقطع المتعلق بهذه الفكرة "فمن شهد منكم أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ، واستقبل قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا فله مثل ما لنا، وعليه مثل ما علينا"(46) تتردَّد في طائفة من مكاتيب النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن أن يشار ههنا إلى ما يناظرها في رسالته عليه الصلاة والسلام إلى المنذر بن ساوى(47) .
وتتفرَّغ الرسالة بعد عرض الدعوة والترغيب في قبولها إلى حديث موسَّع متعلق بمن يرفض هذه الدعوة، وواضحٌ أنَّ الهدي النبوي يفسح مساحة رحبة لحرية الاعتقاد، ولا يُرغم أحداً على تبديل معتقده، غير أنَّ الرسالة تُرتِّب على الراغبين في البقاء على اعتقادهم جملةً من الأُمور مقابل شمولهم بعقد ذمةٍ وحماية، وأوَّل هذه الأُمور دفع الجزية، وثانيهما أداء الخراج على الأرض والماشية، فتطلب أداء خمس محصول الأرض التي تسقي بعلاً، وعشر محصول الأرض التي تسقي سيحاً، وكما ترتِّب الرسالة عليهم واحداً من عشرين من أموالهم النقديّة، وضعف ما على المسلمين من زكاة الأنعام.
كما يشرط الرسول صلى الله عليه وسلم على أهل الذمة شرطاً آخر يتعلَّق بذرياتهم، إذ يُطلب منهم أن يتركوا لأولادهم حرية النشأة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأن لا يأخذوهم منذ الصغر بالتنشئة على الديانة المجوسيَّة. والملاحظ أنَّ المراسلات النبويّة الموجَّهة إلى المناطق العربية التي كانت تنتشر فيها المجوسية كانت تلح على هذا الطلب(48)، رغبةً في أن ينشأ جيل جديد في ظلال العقيدة الجديدة يباين ما عليه الآباء من المجوسية.
وتكفل الرسالة أخيرا كما كفلت سابقتها للمستأمنين حرية العمل والتملُّك، والقيام على إدارة مصادر رزقهم بأنفسهم، بيد أن الرسالة ترتب على الذّميين تقديم بعض الخدمات المجانية لعمَّاله صلى الله عليه وسلم على عُمان، وتشير الرسالة إلى خدمة طحن الحبوب غير المأجورة.
* * * *